يشمل السباق الجديد إلى القمر مواصلة استكشافه واستخراج موارده وربّما بناء مستعمرات عليه في مرحلة ما من المستقبل. لكنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ. بشكل أساسيّ أيضاً، يمكن أن يصبح القمر قاعدة لتخزين معلومات حسّاسة عليه. أمّا أسباب ذلك فكثيرة. يرى البعض أنّها أسباب مشروعة، فيما يعتقد البعض الآخر أنّ مشروعيّتها لا تبرّر كلفتها.
المزيد في هذا التقرير من مجلّة “ساينس فوكوس” التابعة لشبكة “بي بي سي”:
مع تزايد الخروقات الخطيرة للبيانات هذه السنة، إلى جانب التهديدات المتزايدة لوجود البشرية على الأرض، ليس مستغرباً تماماً أن يتطلع بعض الناس إلى السماوات بحثاً عن الأمان. لكن ما يثير الدهشة هو كيفية تخطيط العلماء للقيام بذلك، والمشاركين فيه. في غضون العام المقبل، سترسل “ناسا” حمولة مليئة بالبيانات إلى القمر لاختبار إمكانية تخزين النسخ الاحتياطية على سطحه. سيشكل هذا جزءًا من برنامج “أرتيميس”.
المتعاونون معهم؟ شركة “لونستار” الناشئة في مجال الحوسبة ومقرها فلوريدا ــ بالإضافة إلى جزيرة “آيل أوف مان” التابعة للتاج البريطانيّ والمتمتّعة بالحكم الذاتيّ في البحر الأيرلنديّ. يأمل هؤلاء الشركاء في استخدام سلسلة الكتل “بلوكتشين” لضمان أمان البيانات وحمايتها من العبث، وبشكل أساسي، إثبات أنّ المعلومات المخزّنة في الأرشيف صحيحة.
بلوكتشين هي تقنيّة سجل حسابات لامركزيّ مستخدمة لتسهيل العملة المشفّرة. يستخدمها متخصص الأرشيف “أركَينجل” بطريقة مماثلة. وهذه هي المرّة الأولى التي سيتم استخدامها على القمر.
خطّة العمل
من المقرّر إطلاق المهمّة التجريبيّة من الأراضي الأميركيّة في شباط (فبراير) 2024. وبعد هبوط مكعّب البيانات، يخطّط الشركاء لـ”ختم” البيانات الموجودة في مركز بيانات “لونستار” رقمياً لإثبات مصدرها على القمر. سيتم بعد ذلك إرسالها مرة أخرى إلى الأرض، حيث سيتم تجميعها في بلوكتشين لإظهار أنّه تم التحقق من البيانات.
قال كورت روزن في حوار مع “ساينس فوكوس” من “بي بي سي”: “إنّه تحدٍّ مثير للاهتمام حقاً، ليس بالنسبة إلينا وحسب، بل بالنسبة إلى ناسا أيضاً”. روزن هو رئيس قسم الابتكار في وكالة “ديجيتال آيل أوف مان” التي تموّلها الحكومة في جزيرة مان والتي تدعم قطاع التكنولوجيا.
جنّدت آيل أوف مان مكتب البريد الخاصّ بها للمساعدة في المهمة. وقد اختار مكتب البريد طوابع لاستخدامها كبيانات اختباريّة والتي سيقومون برقمنتها وإطلاقها على مكعّب البيانات. إنّها ليست مجرّد طوابع. تعمل آيل أوف مان مع وكالة “ناسا” لإنشاء طوابع تظهر الشخص التالي على القمر – ويأمل المشاركون أن يأذن الملك تشارلز بذلك أثناء تنفيذ المهمة.
حماية الماضي من أجل المستقبل
لماذا نحتاج إلى مراكز البيانات القمريّة أساساً؟ لن تكون المراكز مخصّصة لتخزين صوركم الزائدة عندما تتجاوزون مساحة تخزين هواتفكم. تأمل المهمّة في حماية أهم اكتشافات وإبداعات البشريّة من الضياع بسبب كارثة على الأرض.
يقول روزن إنّ آثار تغيّر المناخ يمكن أن تسبّب إحدى هذه الكوارث. لكن ما يقلق القائمين على المهمّة بشكل خاص هو الوضع الذي يصبح فيه كوكبنا غير قابل للعيش فيه.
“لقد شهدنا في التاريخ العديد من الظروف التي فُقدت فيها مجموعات من المعرفة أو اختفت فيها ثقافات”، كما قال روزن. مكتبة الإسكندرية الأسطوريّة في مصر القديمة، وهي أرشيف لا يُسبر غوره من المعرفة الإنسانيّة، هي أحد هذه الظروف. تم تدميرها في ظروف غامضة بحلول عام 500 للميلاد.
ولكن في الوقت الحاضر، البيانات مختلفة. فبدلاً من مخطوطات البردي في الإسكندرية، أصبحت المعارف البشريّة الحديثة رقميّة إلى حد كبير ــ ومتشابكة بالاعتماد على الطاقة. أصبح السؤال المطروح هو كيفيّة حماية البيانات الرقميّة بشكل صحيح، وبطريقة ستظل صالحة لآلاف السنين في المستقبل. إجابة روزن؟ ضعوها على القمر.
لكن البعض ما زال متشكّكاً. شبّه البروفسور بيتر بنتلي، عالم الكمبيوتر في جامعة كوليدج لندن، الحل بـ “رمي زجاجة تحتوي على ذاكرة محمولة في البحر. لن يتم اختراق البيانات، ولكن هناك بعض المشكلات الأخرى”.
ويشير بنتلي أيضاً إلى أنّ هناك ظروفاً مماثلة متاحة على الأرض، ولكن بدون المتاعب. “ما العيب في موقع أرضيّ غير مأهول، مثل قاع منجم مهجور؟ لا تحتاجون إلى مركبة فضائيّة للوصول إليه لإجراء الإصلاحات”.
وقال لـ”ساينس فوكوس” من “بي بي سي” إنّ الاحتفاظ بالمعدّات على القمر سيكون “أكثر صعوبة بكثير، ناهيكم عن تكلفة أكبر بكثير” من تخزينها على الأرض. “وسوف تتعرّض لدرجات حرارة وإشعاع قصوى، وبالتالي تصبح أكثر عرضة لتوليد عيوب تؤدي إلى تلف البيانات”.
بيانات القمر: ما مدى أمان كلمة “آمنة”؟
إنّ مكعّبات البيانات القمرية ليست محرّكات أقراص صلبة، ويطلق عليها اسم “مكعّبات”، ولكنّها ليست كذلك. يمكن أن تكون بأي شكل. والجهاز الذي سيتم إطلاقه في فبراير هو مستطيل أسود بحجم كتاب تقريباً، وسيقوم بتخزين تيرابايت من البيانات. تعمل هذه الوحدات على الطاقة الشمسيّة، مع قدرة معالجة أوليّة ومحركات أقراص صلبة بالداخل، ولا تستخدم الموارد أو تحتاج إلى تكنولوجيا التبريد.
يقول روزن: “يمكن أن تبقى هناك إلى الأبد”. ومن الناحية النظرية، هذا يجعلها صديقة للبيئة أكثر من تخزين البيانات على الأرض. ويضيف أنّ هذه الصفات البسيطة نفسها هي التي تجعلها آمنة من القرصنة والذكاء الاصطناعيّ. وبما أنّ هذه الوحدات لا تستخدم الإنترنت، إنّ أيّ مقرصن يرغب في الاستفادة من الاتصالات سيتعيّن عليه المرور عبر بروتوكول نقطة إلى نقطة الخاص بها (وهذا يشبه وجود شخصين على طرفي هاتف واحد). مع وجود عدد أقل من النقاط في شبكة الاتصالات، تقل فرصة الاعتراض.
ولا يرى روزن أنّ العبث من قبل المدنيين يمثّل مشكلة أيضاً – على الأقل لغاية الآن. وقال: “نأمل أن يمر وقت طويل قبل أن يتمكن الأفراد من الذهاب إلى القمر بأنفسهم وتخريب الأشياء”.
لكنّ بنتلي لا يوافق على ذلك. “إنّ خروقات البيانات والقرصنة لا علاقة لها بقرب المسافة. إذا كان بإمكانكم الاتصال به، وتجاوز التشفير والأمان، فيمكنكم الحصول على البيانات”.
يقول بنتلي إن القرصنة أو الفيروسات يمكن عندها أن تؤثّر على البيانات الموجودة على القمر، ما لم تحافظ الدول على هذه البيانات بشكل “مفصول”. وأضاف: “لكن يمكننا أن نفعل ذلك على الأرض أيضاً”.
بيانات الديار… بعيداً من الديار
إنّ تخزين البيانات الوطنيّة في دولة أخرى يجعلها خاضعة لتشريعات مختلفة، بما في ذلك قوانين حماية البيانات. وفي حين أن هذه المهمة ستختبر المفهوم من خلال استخدام الطوابع، قد تقوم مراكز البيانات في المستقبل بتخزين بيانات وطنية من نوع أكثر حساسية.
يمكن أن يشمل ذلك أيّ معلومات ثقافية وسجلات مالية تتعلق بصحة الإنسان – مثل بيانات الجينوم المحتفظ بها للأبحاث الصيدلانية. إنّه نوع البيانات التي ستريدون التأكد من أنه محميّ بشكل جيد من خلال تشريعات واضحة.
قال روزن: “الحكومات هي أكبر من يملك البيانات الشخصيّة في كل بلد، وهناك التزام حقيقي بحماية تلك البيانات بشكل صحيح”. المشروع مستوحى من سجلّات السفن التي تجعل السفن الرافعة لعلم بلدها قطعة عائمة من ذلك البلد (من حيث الاختصاص القانوني). وينطبق الشيء نفسه على الأقمار الاصطناعية بما في ذلك تلك التي تهبط على القمر.
إنّ تخزين البيانات عبر القمر الاصطناعيّ يجعل تلك المنطقة جزءاً بعيداً عن الولاية القانونية للبلاد. عندما يهبط القمر الاصطناعي التابع لناسا في السنة المقبلة، ستشهد المهمة فعلاً إعادة إنشاء قطعة من جزيرة مان على القمر.
قال روزن: “إنّه مزيج مثير للاهتمام من الأشياء، والذي يبدو في ظاهره مجنوناً”. “لكن في الواقع، عندما تضعونها جميعها في صف واحد، تعتقدون بشكل غريب أنّ هناك بعض المعنى لهذا الأمر”.