لا يغادر دونالد ترمب فرصة من دون أن يثير الجدل بموقف أو تغريدة أو تدخل في شؤون الآخرين. فكيف سيكون حاله في بريطانيا التي يزورها في زيارة رمزية؟
خاص "إيلاف" من لندن: بينما هبطت مروحية دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الخامس والأربعين، في حديقة قصر باكنغهام في زيارة دولة إلى المملكة المتحدة صباح اليوم الإثنين، انشغلت شرطة لندن بتجهيز عشرة آلاف من أفرادها وضباطها لحفظ الأمن بعد تهديد الحركات اليسارية بإغلاق مرور لندن احتجاجًا على استقبال الملكة إليزابيث ترمب.
سألت "إيلاف" الزميل عادل درويش، المختص بالشأن البريطاني، كي يواكب زيارة ترمب المثيرة للجدل إلى لندن اليوم، ويستشرف أفقها. وبحسبه، تزعم صادق خان، عمدة العاصمة لندن، احتجاجات في الصيف الماضي، في أثناء زيارة رسمية للرئيس الأميركي بلافتات وصور يعاقب المعلمون التلاميذ عند إشهارها. وبدوره، أثار ترمب الجدل بتغريدة على "تويتر" يُذكر فيها خان بفشله في التعامل مع الجريمة ومشكلات لندن، بدلًا من التركيز على زيارت بصفته أهم حليف وصديق لبريطانيا، وذلك ردًا على اتهام خان الرئيس الأميركي بأنه يشبه فاشيي القرن العشرين، في مقالة نشرها قبل أيام، قوبلت بالامتعاض لأن ترمب هذه المرة يحل ضيفًا على الملكة، وليس على الحكومة.
عادل درويش
زيارة رمزية
تخضع زيارات رؤساء الدول لبروتوكولات تقسمها ثلاثة أنواع، بحسب التركيبة الدستورية للمملكة المتحدة التي تفصل الدولة بمؤسساتها الثابتة بما فيها الكنيسة الإنغليكانية الرسمية، عن الحكومة التي تتبدل بالانتخابات.
في الصيف الماضي، حل ترمب ضيفًا على الحكومة في زيارة رسمية، لكنه قابل الملكة بصفته رئيس دولة.
وهناك زيارة عمل لرئيس حكومة، وقد يكون رئيس دولة في النظام الجمهوري، وفي هذه الحالة يلتقيه أحد أفراد الأسرة الملكية من باب المجاملة البروتوكولية.
أما زيارة الدولة فبدعوة من القصر (باقتراح من ١٠ داوننغ ستريت) وتوجه مرة واحدة فقط في حياة رئيس أي دولة، ولا تتكرر، بعكس الزيارات الأخرى.
زيارة الدولة اليوم رمزية أكثر منها سياسية. وفي الإطار التاريخي تصادف الذكري الخامسة والسبعين لنزول الحلفاء في ٦ يونيو ١٩٤٤ شواطئ نورماندي وبداية تحرير أوروبا من النازية، حيث بلغت خسائر الأميركيين وحدهم ٦٦٠٣ ما بين قتيل ومصاب بجروح خطيرة (بجانب ٢٧٠٠ بريطاني و٩٤٦ كنديًا و٢٤٩ جنسيات أخرى).
سياسة مستقلة!
هذه الذكرى هي وراء استياء الأغلبية الصامتة، خصوصًا كبار السن والمحافظين، من الاحتجاجات؛ فمن دون تضحيات الشباب الأميركي في الحرب العالمية الثانية ما كانت المجتمعات الأوروبية لتتمتع بحرية التعبير والاحتجاج، وما كان مسلمًا من أصل باكستاني ليصبح عمدة لندن.
واذا كان الرئيس الأميركي يثير الجدل بغير المألوف ديبلوماسيًا بتغريداته على تويتر معلنًا سياسات جديدة أو آراء تبقى عادة في طي الكتمان، فعمدة لندن بدوره يمارس تدخلات غير مسبوقة في الدولة.
فخان نفسه يحاول إدارة سياسة خارجية للندن وكأنها ولاية مستقلة عن المملكة، بذهابه إلى بروكسيل في أكتوبر الماضي ومقابلته المفوضية الأوروبية.
فهل يتخيل القارئ مثلًا ردة فعل الرأي العام إذا ذهب محافظ القاهرة وحده للقاء أمين عام الجامعة العربية بلا مشاورات مع رئاسة الجمهورية؟ أو قاد تظاهرات وهاجم رئيس دولة صديقة عشية زيارته الرسمية لمصر؟
زيارة ترمب هي زيارة الدولة الثالثة لرئيس أميركي (الأولى كانت لجورج بوش الابن في ٢٠٠٣ والثالثة لباراك أوباما في ٢٠١١)، أما باقي الزيارات فكانت زيارات عمل أو في مناسبات محددة، كذكرى الحرب الثانية أو على هامش قمم كالثمانية أو حلف الأطلسي.
صن وصانداي تايمز
الأشهر بالطبع كانت زيارة الرئيس الأميركي أيزنهاور الرسمية (لم تكن زيارة دولة) للندن في عام ١٩٥٩ والحفاوة الشعبية التي شهدها عندما تجول بين الناس مع رئيس الوزراء هارولد ماكميلان، وكان الشعب وقتها لا يزال يذكر قيادته قوات الحلفاء قبل ١٥ عامًا للانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية.
أيزنهاور طلب سيارة مكشوفة بدلًا من العربات الكلاسيكية المغلقة، فأعار رجل أعمال لندني الحكومة سيارته رولز رويس المكشوفة لاستخدامها في جولات الضيف الأميركي ملوحًا للجماهير المرحبة به.
أما ترمب فلن يتجول بين الجماهير، وسيلتزم الخط الرسمي لتجنب مواقف تثير الحرج.
مقابلتا ترمب مع صحيفتي "صن" (أكثر صحف بريطانيا شعبية وتوزيعًا) و"صانداي تايمز" (الوحيدة التي خصها الزعيم الأميركي بمقابلة خاصة قبل عامين)، أثارتا الجدل.
الصحيفتان من مجموعة شركات روبورت مردوخ. وشبكة تلفزيونه فوكس نيوز هي الوحيدة التي لا تكن العداء الظاهر والتغطية السلبية لترمب منذ انتخابه رئيسًا.
ترمب تعمد توجيه رسالة: فمردوخ يعتبر رمزًا للوجه القبيح للرأسمالية، وهو هدف كراهية المؤسسة اليسارية الليبرالية (التي تمثلها غارديان وبي بي سي والقناة الرابعة والحركات النسائية والاتحادات العمالية والبيئيون والخضر).
ترمب متدخلًا
في إجاباته عن أسئلة توماس نيوتن-دن وتيموثي شيبمان، وهما زميلان في المجموعة الصحفية البرلمانية، بشأن أهم قضيتين في دوائر ثرثرة وستمنستر، وهما اختيار زعيم جديد للمحافظين والبركسيت، أثار ترمب ما اعتبره البعض تدخلًا في السياسة البريطانية الداخلية.
ففي إجابته عن تقييمه وزير الخارجية السابق بوريس جونسون بصفته مرشحًا لزعامة الحزب، قال إنه رجل ممتاز ويحبه كثيرًا وسيكون زعيمًا ممتازًا. أضاف: "طلب المرشحان الآخران تأييدي العلني لكنني رفضت لأنني لا أريد التدخل في السياسية البريطانية".
الملاحظ أن جونسون نفسه، مثل ترمب، مثير للجدل تهاجمه الصحافتان اليسارية والليبرالية، وهو ليس المرشح المفضل للنواب المحافظين في مجلس العموم، بل هو الثالث (يتمتع كل من وزير الخارجية الحالي جيرمي هانت، ووزير البيئة مايكل غوف بتأييد ٢٨ نائبًا، وياتي جونسون في المركز الثالث بأصوات ٢٧ نائبًا)، لكنه يتمتع بتأييد شعبي جارف، ويسبق الآخرين بعشر نقاط، فهو السياسي الوحيد المعروف لدى الشعب باسمه الأول فقط "بوريس".
حرج أوباما
كما انتقد ترمب ضمنيًا إدارة ماي المفاوضات مع الاتحاد الاوروبي التي لم تعمل فيها بنصيحته لتستخدم أوراق الضغط. كما اقترح أن يضم فريق المفاوضين البريطاني نايجل فاراج، زعيم حزب بركسيت الذي تأسس قبل ستة أسابيع فقط لكنه فاز بأكبر نسبة مقاعد (٢٩ مقعدًا) من أي حزب على مستويي أوروبا كلها وبريطانيا، ما أثار استياء الحكومة التي ترى في الحزب تهديدًا خطرًا. فهو الأول في آخر استطلاع للرأي جرى الأحد (بنسبة ٢٦ في المئة في مقابل ٢٢ في المئة للعمال و١٧ في المئة للمحافظين). وبالطبع، غضب اليسار الليبرالي الذي لا يفوت مناسبة لشيطنة صورة فاراج.
يبدو أن منتقدي ترمب ضعاف الذاكرة: ففي زيارة أوباما في أبريل ٢٠١٦ تدخل بشكل مباشر في تصويت استفتاء الاتحاد الاوروبي بتهديده "بوقوف بريطانيا في آخر طابور الصفقات الاقتصادية " إذا صوت الناس بالخروج.
إذا كان أصدقاء عمدة لندن وخصوم ترمب يبتهلون للسماء أن تمنحهم هدية في شكل موقف محرج يقع فيه ترمب، فقد تناسوا الحرج الذي وقع فيه أوباما في حفل عشاء الدولة عندما وقف ورفع الكأس ليشرب نخب الملكة، فتجاهلته تمامًا لأن الاوركسترا بدأت في تلك اللحظة بعزف النشيد الوطني الملكي... "حفظ الله الملكة".
