الحرب الاقتصادية على قطر.. أدواتها وأهدافها

إن التخطيط والتآمر على زعزعة استقرار عملة واقتصاد دولة ذات سيادة بواسطة دولة ذات سيادة يعد من أعمال الحرب الاقتصادية.

إنه إرهاب مالي يمارس برعاية دولة عضو في مجلس التعاون وفي الجامعة العربية والأمم المتحدة ويهدف إلى إلحاق أكبر ضرر اقتصادي ممكن بدولة ، من خلال زعزعة استقرار العملة الوطنية، والدفع نحو هروب رؤوس الأموال، واستنزاف الاحتياطات السيادية وزعزعة الاستقرار الاقتصادي.

وربما يمتد ذلك إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي، بل كان يؤمل منه تهديد الأمن القومي وانهيار النظام. هذا هو كان حجم المؤامرة المأمول تحقيقها.

إن التآمر على زعزعة استقرار العملة الوطنية والنظام المالي وضرب الاقتصاد الوطني كان أمرا متوقعا، مع حملة التحريض الشرسة والكراهية ضد قطر، وحجم والمؤامرات التي كانت تتكشف يوما بعد يوم، ولا يقل خطرا عن الحرب العسكرية، بل إنه بمثابة سلاح دمار شامل. وقد يسأل البعض: ولكن لماذا الحرب الاقتصادية ولماذا على الريال القطري؟

والجواب هو: تبقى الحرب الاقتصادية هي الجبهة الممكنة والأكثر فاعلية لإحداث أكبر تدمير ممكن وعن بعد بلا اشتباك مباشر وبأقل تكلفة ممكنة، لو نجحت.

فهي حرب ذكاء ومكر ودهاء، حرب أفكار وعقول، وحرب العقول تواجهه بالعقول. وهنا تأتي أهمية الأبحاث الاقتصادية، فإدارات ومراكز الأبحاث هي مصانع العقول. وتبقى العملة هدفها الأول والأنجع، خصوصا في ظل نظام سعر الصرف الثابت.

فكلما كان هامش التثبيت أو نطاق الربط أمام عملة التثبيت الأجنبية ضيقا (كالتثبيت الجامد hard peg كما في حالة قطر وبقية دول مجلس التعاون ما عدا الكويت)، كان نظام سعر الصرف أكثر حساسية وعرضة للضغوط والمضاربات في أوقات الأزمات الاقتصادية والسياسية الحادة، وزاد ذلك من العبء على السلطة النقدية للمحافظة على سعر الصرف عند قيمة التثبيت المعلنة أمام عملة الربط الأجنبية (الدولار)، والاستعداد للدفاع عنها باستمرار من خلال تخصيص الاحتياطات من الصرف الأجنبي.

على سبيل المثال في حالة الضغوط التنازلية على العملة الوطنية، يكون ذلك بتدخل السلطة النقدية بشراء الكميات الزائدة منها عن الطلب المعروضة في الأسواق مقابل بيع العملة الأجنبية بالسحب من الاحتياطات الأجنبية.

ونظام سعر الصرف الثابت بحاجة إلى كميات كبيرة من الاحتياطات الأجنبية تخصص للدفاع عنه، تكون في حالة شبه سائلة أو جاهزة للاستدعاء عند الحاجة.

وقد تدرجت هذه الحرب الاقتصادية على قطر على عدة مراحل، كانت الأولى منها بفعل تأثير الصدمة على السوق الآنية والآجلة للريال.

"
إن التخطيط والتآمر على زعزعة استقرار عملة واقتصاد دولة ذات سيادة بواسطة دولة ذات سيادة يعد من أعمال الحرب الاقتصادية، إنه إرهاب مالي يمارس برعاية دولة عضو في مجلس التعاون وفي الجامعة العربية والأمم المتحدة يهدف إلى إلحاق أكبر ضرر اقتصادي ممكن بدولة قطر
"

فتعاضد عامل التوتر السياسي مع ارتفاع الطلب على العملة الأجنبية في فترات إجازات نهاية العام والأعياد مع انقطاع مفاجئ للإمداد بالدولار من ، ورافق ذلك حملة مسعورة من إعلام دول الحصار هدفها خلق حالة من الهلع وإثارة التوتر والارتباك تؤدي إلى التخلص من الريال، وبالتالي انخفاض قيمته وخروج رؤوس الأموال من البلاد، ولكن الضغوط هذه كانت مؤقتة.

وفشل إعلام دول الحصار من هذه الزاوية في التأثير على الداخل القطري بسبب انعدام المصداقية، نظرا لأسلوبه الفج والتضليل والاستخفاف بعقول الناس منذ اندلاع هذه الأزمة.

ثم بعد ذلك كان هناك التآمر على الريال من خلال إيقاف التعامل به في بعض الأسواق الخارجية في مناطق مختلفة من العالم في أواخر يونيو/حزيران الماضي، في على وجه الخصوص، بهدف إثارة القلق وخفض قيمته.

وهذه الحملة كان يقودها ملياردير من الجنسية الهندية يقيم في يدعى " Bavaguthu Raghuram Shetty " ويتملك (جزئيا أو كليا) مجموعة صرافة الإمارات وشركة صرافة "ترافليكس"، التي تقوم بدورها كوسيط في تقديم خدمات صرافة (تمويل) بالعملة الأجنبية لعدد من البنوك البريطانية الكبرى وشركات الصرافة.

وهناك مصادر ومؤشرات تفيد أن هذا الشخص يقود هذه الحملة لصالح حكومة أبوظبي.

حملة مسعورة
ومع أن فرص نجاح هذه الخطة ضئيلة، بسبب محدودية عرض الريال القطري في الأسواق الخارجية، فقد رافقتها حملة مسعورة من إعلام دول الحصار بهدف إثارة القلق والتوتر لدى الجمهور والمستثمرين، والدفع نحو التخلص من الريال القطري بهدف خلق ضغوط تنازلية عليه لإضعافه، إلا أنها باءت بالفشل، وهذا مؤشر إلى من كان يخطط ويقف خلف هذه المؤامرة.

ثم بعد كانت هناك محاولات لزعزعة استقرار القطاع المصرفي والضغط نحو خروج الودائع ورؤوس الأموال، ولكن الحكومة تدخلت -بالسرعة والوقت المناسبين- وضخت ودائع في الجهاز المصرفي، تقدر بـ 19 مليار دولار، والمصرف المركزي بتسعة مليارات دولار في أول شهرين من الأزمة لتعزيز السيولة المحلية والتعويض عن خروج رؤوس أموال.

وتشير بعض المصادر إلى خروج 8 و15 مليار دولار في أول شهرين من الأزمة. وتقدر ودائع دول الحصار بـ 15 - 20 مليار دولار من مجموع 52 مليار دولار ودائع غير المقيمين في قطر، وبنسبة 25% من ودائع القطاع المصرفي.

وحسب بعض المصادر فإن قطر استدعت عشرين مليار دولار من صندوقها السيادي لتعزيز السيولة المحلية، وضخت 38.5 مليار دولار في اقتصادها في الأشهر الأولى من الأزمة لتعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي، وقد حاولت دول الحصار جر أطراف أخرى من دول وبنوك وشركات إلى الانضمام إليها في مقاطعة قطر ماليا، ولكنها فشلت في ذلك.

e429b72cb7.jpg
مصرف قطر المركزي ضخ تسعة مليارات لتعزيز السيولة المحلية (رويترز-أرشيف)

ثم بعد ذلك نشر موقع  ذي إنترسيبت الأميركي بتاريخ 9 نوفمبر/تشرين الثاني خطة مفصلة للتآمر على الديون السيادية لدولة قطر مسربة من البريد الإلكتروني ليوسف العتيبة سفير الإمارات في واشنطن، وقد لقي هذا التسريب اهتماما واسعا من قبل وسائل الإعلام والمختصين.

إلا أن هذه الموضوع ليس بجديد في حد ذاته، وسبق الكشف عنه في مجلة "Outlook India" بتاريخ 11 أكتوبر/تشرين الأول في سياق تقريرها عن دراسة تحقيق يقوم بها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن يشير فيها إلى أن منظومة مجلس التعاون قد بدأت تتفكك من الداخل بسبب الخلاف القطري مع الحلف الذي تقوده وتبعات ذلك على العلاقات والمصالح الهندية في المنطقة.

وهذه حملة العقل المدبر لها بريطاني يدعى ديفد رولاند، وهو يمتلك بنكا اسمه هافيلاند أسسه عام 2009 في لكسمبورغ على أنقاض بنكه "Kaupthing" المفلس في أيسلندا خلال الأزمة المالية العالمية، وهو شخص مثير للجدل ومتهرب من الضرائب ولديه شبكة علاقات مصالح واسعة مع سياسيين حول العالم وتربطه بمحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي علاقات قوية كما تشير المصادر.

وتتمثل الخطة في جمع أكبر قدر ممكن من سندت الدين القطرية بصورة خفية، في حين تشتري الإمارات تأمينات هذه الديون -التي تستخدم لدفع الدين في حالة الإفلاس- لتعرضها فيما بعد بتأمين مرتفع ولكن من دون بيعها، ثم بعد ذلك يتم التلاعب بهذه السندات في عملية تعرف بتلوين الشريط، وهو كالشريط الذي يظهر الأسعار على شاشات التعاملات المالية في غرف التداول "المؤشر".

وهنا يتم التعامل على هذه السندات، بيعا وشراء بسرعات عالية وأسعار منخفضة، ولكن العملية محصورة بين أطراف معينة ضمن دائرة مغلقة حسب خطة متفق عليها (تآمر) مسبقا، وغالبا تكون عمليات بيع وشراء وهمية وقد يكون جزء منها حقيقيا، وقد يتم البيع لنفس مصدر الشراء بأسعار أقل.

والهدف من هذه العملية هو الإيحاء بأن هناك حركة تعامل كبيرة على السندات القطرية وبأسعار منخفضة مما يعطي تصورا بأن هناك خللا ما يحدث في قطر، كصعوبات اقتصادية أو حالة عدم استقرار  اقتصادي أو سياسي، بفعل ضغوط الحصار عليها وحالة التوتر والأزمة السياسية الحادة مع جيرانها، ويرافق ذلك حملة علاقات عامة مسعورة توظفها دول الحصار لترسيخ هذه التصور، مما يثير القلق والارتباك لدى المستثمرين الحقيقيين في السندات القطرية ويدفعهم نحو التخلص منها، ويؤدي ذلك إلى انخفاض قيمها.

وهذا الفعل في حد ذاته يؤدي إلى المزيد من الهلع ويدفع المزيد من المستثمرين -في السندات والأصول القطرية، وكذلك الجمهور من حملة الريال وأصحاب الودائع- إلى سرعة التخلص من العملة القطرية وربما أيضا الاستثمارات والأصول المقومة بها.

ويؤدي ذلك إلى خروج رؤوس الأموال وانخفاض قيمة العملة وربما تهاويها أو ما يسمى بالسقوط الحر (free fall)، أي الانهيار التام، وهذا في أسوأ الحالات.

"
الحكومة تدخلت بالسرعة والوقت المناسبين وضخت ودائع في الجهاز المصرفي، تقدر بـ19 مليار دولار، والمصرف المركزيضخ تسعة مليارات دولار في أول شهرين من الأزمة لتعزيز السيولة المحلية والتعويض عن خروج رؤوس أموال
"

سيناريوهات
وعلى أية حال، هناك بعض السيناريوهات من الناحية النظرية التي كان يأمل من خطط لهذه المؤامرة تحقيقها أو تحقيق بعضها، أو ربما كانت تدور في خياله، وهي مفعمة بالإثارة والمغامرات، نستعرض بعضها هنا، لكن النتائج المباشرة المأمول تحقيقها من انخفاض السندات القطرية هي:

-  أولا: ارتفاع تكلفة التأمين على السندات القطرية (بسبب ارتفاع المخاطر).

- ثانيا: ارتفاع أسعار فائدة الإقراض لقطر.

- ثالثا: انخفاض التصنيف الائتماني لقطر، وهذه بدورها تؤدي إلى صعوبات في الاقتراض من أسواق المال الدولية وربما عدم المقدرة على الاقتراض.

 ونظريا هناك ثلاثة خيارات أمام أية سلطات مختصة في مثل هذه المواقف:

- أولا: ألا تفعل شيئا ولا تدافع عن العملة، وهذا قد يؤدي إلى فقدان قيمتها وربما انهيارها، وذلك سيؤدي إلى كارثة اقتصادية وإلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل حاد.

 - ثانيا: الدفاع المستمر عن العملة بالسحب من الاحتياطات فقط، وهذا قد يؤدي إلى استنزافها مع استمرار الضغوط مع الوقت.

- ثالثا: الخيار الثالث والأفضل هو تبني حزمة من الإجراءات الاحترازية المباشرة بالإضافة إلى استخدام الاحتياطات. ولكن رد فعل السياسات العملي في مثل هذه الحالات يعتمد على تقييم داخلي للأوضاع من قبل السلطات المختصة بناء على المعطيات على أرض الواقع.

وبطبيعة الحال لن يؤخذ بالخيار الأول. فانخفاض قيمة العملة يهدد مصداقية واستقرار نظام سعر الصرف الثابت ويدفع السلطة النقدية والحكومة للتدخل للدفاع عن العملة والمحافظة على قيمتها عند سعر التثبيت الرسمي.

22b0ce3ae4.jpg

موقع "إنترسيبت" نشر خطة للتآمر على الديون السيادية لقطر مسربة من العتيبة سفير الإمارات بواشنطن (الجزيرة)

والهدف من إطالة أمد الحصار هو استمرار الضغط على الاقتصاد، وعلى سعر الصرف والجهاز المصرفي، واستمرار الضغوط على الاحتياطات الأجنبية بالسحب منها لاستنزافها مع مرور الوقت (كما أن تسييل الأصول في حالة الضغوط المفاجئة عند الحاجة قد لا يكون على أية حال بأسعار مناسبة).

والهدف من ذلك إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد والقدرة المالية للدولة قد يصل في أسوأ الحالات إلى صعوبة أو عدم القدرة على تغطية تكاليف الواردات السلعية كالغذاء وغيرها من مواد أساسية أو رأس مالية ومعدات وغيرها من وسائل مواصلات ومواد بناء وتنمية البنية التحتية بشكل عام ومنها متطلبات منشآت . كما أن احتمالات المضاربات على العملة في مثل هذه الحالات لأغراض تحقيق الأرباح في الخارج أو الداخل قائمة.

"
هذه مخططات متفائلة جدا وكأنها أقرب إلى نسج الخيال التأمري، وكأن من أعدها مهووس بأفلام هوليود ومغامرات جيمس بوند. ويبدو أن العالم سيشهد تزايدا في استخدام مثل هذه الحروب الاقتصادية مستقبلا في عالم الجيوبوليتكس مع تزايد العولمة المالية والتشابك والتداخل المالي، ولأنها أقل تكلفة (على من يقوم بها) من الحروب التقليدية ولكنها لا تقل دمارا عنها
"

كما أن شهادات إيداع البنوك القطرية هي هدف للتآمر والتلاعب من قبل دول الحصار، والإمارات والبنوك الإماراتية على وجه الخصوص، لذلك يجب الحيطة والحذر.

وفي حالة انخفاض قيمة العملة بشكل كبير فإن ذلك يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل حاد (وارتفاع أسعار السلع والمواد الأساسية بشكل كبير كما هو الحال الآن على سبيل المثال في )، وربما امتد ذلك إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي ومنه إلى الاستقرار السياسي بمرافقة الحملة الإعلامية المسعورة لإثارة الهلع وزعزعة الثقة والاستقرار.

كما أن انخفاض قيمة العملة بنسبة تصل إلى 10% قد يؤثر في مصداقية نظام سعر الصرف الثابت، ولو انخفضت بنسبة كبيرة تصل إلى 40% فما أعلى قد يؤدي ذلك إلى زعزعة الثقة في نظام سعر الصرف واستقراره، وسيتطلب فترة طويلة من الزمن لاستعادة الثقة والتوازن فيه من جديد.

وهذا سرد لسيناريوهات من الناحية النظرية وكان يؤمل تحقيقها أو تحقيق بعضها بناء على ما تكشف من تخطيط وتآمر، ولكن فرص نجاح هذه الخطط والمؤامرات كانت ضئيلة جداً لعدة أسباب؛ منها محدودية عرض الريال القطري في الأسواق الخارجية نظراً لقلة الطلب على مثل هذه العملات غير الدولية في الخارج، فالتعامل عليها خارج أوطانها محدود لأنها عملات غير متداولة عالمياً.

كذلك الحال بالنسبة للسندات القطرية، فهي في معظمها في حالة غير سائلة (محدودة التداول)، ويتم اقتناؤها من قبل بنوك وبيوت استثمار عالمية عريقة ذات سمعة ممتازة تحافظ عليها لقبولها الائتماني والعائد الجيد عليها، والسندات السيادية القطرية تتمتع بتصنيف ائتماني مرتفع (AA-)، وكذلك البنوك القطرية بمعدل تصنيف ائتماني( A).

بالإضافة إلى ذلك فإن السلطات على علم بمثل هذه الاحتمالات مبكرا، وقد أُخذت التحوطات اللازمة لمواجهتها، وتراقب سوق سندات الدين القطرية عن كثب، كما أن عنصر المفاجأة قد ألغي الآن.

جدار الاحتياطات

"
أحذر من التهور والمغامرات غير المدروسة وغير محسوبة العواقب، ومحاولة العبث بنظام سعر الصرف بهدف إيذاء قطر بأي ثمن، فهو سلاح ذو حدين وقد يرتد على من دبر وخطط له، فدول مجلس التعاون تظل منظومة واحدة وتشكل منطقة عملة موحدة مع الأمريكية من خلال ارتباطها بالدولار الأميركي، وكسر نظام سعر الصرف في أفضل الاقتصادات الخليجية أداء قد يرتد على من دبر له
"
وفي النهاية فإن مستوى الاحتياطات النقدية والسيادية الضخم من الصرف الأجنبي لدى المصرف المركزي والحكومة يجعل نجاح هذه المحاولات صعبا وينكسر على جدار الاحتياطات القوي الذي يرفده اقتصاد حقيقي قوي وأكبر منتج ومصدر للغاز الطبيعي في العالم.

كل هذه العوامل تدل إما على قلة خبرة من يخطط لهذه المؤامرات والمحاولات، أو على مستوى اليأس والإحباط الذي وصل إليه، من حيث السعي لإيذاء قطر بأي وسيلة وأي ثمن، أو أن من جند للتخطيط وتنفيذ هذه المؤامرة يعلم أن فرص نجاحها ضئيلة، ولكنه يقوم بذلك على أي حال لتضليل من جنده واستغلاله ماديا.

كما أنه يجري أيضا التلاعب بالريال في أسواق الصرف الخارجية في دول الحصار، الإمارات على وجه الخصوص، على غرار مماثل للتلاعب بالسندات السيادية، إذ يتم تداول الريال القطري بكميات محدودة من قبل بنوك معينة في دائرة مغلقة بينهم بيعا وشراء بأسعار أقل من أسعار السوق الآنية -في نطاق سعر الصرف الرسمي المعلن من قبل المصرف المركزي- بهدف إظهار أن الريال يفقد قيمته، وتمتنع هذه البنوك عن التعامل مع البنوك القطرية.

ثم يتم بعد ذلك إعلان قيم تداول الريال المنخفضة هذه من خلال القنوات المالية والإخبارية لعرضها للأسواق والجمهور، ومن ضمنها قنوات عالمية كبلومبرغ ورويترز وغيرها، كثير منها مقره دبي.

وهذا يفسر الأسعار المنخفضة التي تعرض للريال القطري في أسواق الصرف الأجنبي الخارجية، إذ إنها إما أن تبث من خلال قنوات أخبارية مقرها دول الحصار، أو أنها تتأثر بتخطيط من بعض دول الحصار بطريقة أو بأخرى، وفي هذا تظليل، وهذه تعاملات غير أخلاقية ومخالفة للأمانة وأعراف المهنة، وستلحق ضررا بسمعة ومصداقية من يقوم بها من بنوك ومؤسسات مالية.

والخلاصة من التلاعب بالسندات والعملة القطرية هو الضغط على سعر صرف العملة المثبت أمام الدولار وزعزعة الثقة فيه وزعزعة استقراره، مما يضطر الدولة للتدخل للدفاع عنه باستنزاف الاحتياطات لأن تركه ينخفض بنسبة كبيرة أو انهياره سيجر إلى كارثة اقتصادية عبر:

- أولا: فقدان المصداقية في الربط الذي قد يؤدي إلى زعزعة استقرار نظام سعر الصرف لفترات طويلة.

- ثانيا: يحدث تخل أو تحول عن الريال إلى العملة الأجنبية وهروب في رؤوس الأموال إلى الخارج.

- ثالثا: وهذا يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل حاد (بسبب فقدان العملة لقيمتها)، وهذا يزعزع الاستقرار الاقتصادي وربما امتد إلى الاجتماعي والسياسي.

- رابعا: البديل الأفضل إذن هو السحب من الاحتياطات للدفاع عن العملة لتعزيز الاستقرار النقدي والمالي، والاستقرار الاقتصادي، وهذه هو هدف دول الحصار النهائي من إطالة أمد الحصار، أملا في استنزاف الاحتياطات السيادية لقطر لإضعافها ماليا وإنهاك اقتصادها حتى يضعف أداء الاقتصاد ويؤثر ذلك على استدامته وتعثر مشاريع البنى التحتية، بما فيها مشاريع كأس العالم، فحينها إما الرضوخ لطلبات دول الحصار أو تدمير الاقتصاد.

ولكن هذه مخططات متفائلة جدا وكأنها أقرب إلى نسج الخيال التأمري، وكأن من أعدها مهووس بأفلام هوليود ومغامرات جيمس بوند. ويبدو أن العالم سيشهد تزايدا في استخدام مثل هذه الحروب الاقتصادية مستقبلا في عالم الجيوبوليتكس مع تزايد العولمة المالية والتشابك والتداخل المالي، ولأنها أقل تكلفة (على من يقوم بها) من الحروب التقليدية ولكنها لا تقل دمارا عنها.

تحذير
ولكن في الوقت نفسه، وكما ذكرت في تصريحي لوكالة رويتز مؤخرا أحذر من التهور والمغامرات غير المدروسة وغير محسوبة العواقب، ومحاولة العبث بنظام سعر الصرف بهدف إيذاء قطر بأي ثمن، فهو سلاح ذو حدين وقد يرتد على من دبر وخطط له، فدول مجلس التعاون تظل منظومة واحدة وتشكل منطقة عملة موحدة مع الولايات المتحدة الأميركية من خلال ارتباطها بالدولار الأميركي، وكسر نظام سعر الصرف في أفضل الاقتصادات الخليجية أداء قد يرتد على من دبر له، ويؤدي إلى انتشار العدوى إلى بقية الأعضاء وإشعال أزمة سعر الصرف في المنطقة التي هي تعاني أساسا من ضغوط مالية وصعوبات اقتصادية بسبب انخفاض أسعار النفط.

"
 السعودية هي الأخرى ليست أحسن حالا من البحرين، وهي عرضة أيضا لمخاطر انخفاض سعر الصرف وليست محصنة ضد العدوى، فهي تعاني من عجوزات كبيرة وارتفاع نفقات الحرب في واقتصاد عليل، بجانب ابتزاز الذي استقطع جزءا كبيرا من الأموال
"

فالبحرين على سبيل المثال، المصنفة عالية المخاطر ربما تكون هي الأكثر عرضة بين أعضاء المجموعة، وهي حسب تقرير لوكالة بلومبرغ صدر بداية الشهر المنصرم، هي بالفعل في ضائقة مالية وتعاني من انخفاض في الاحتياطات الأجنبية مما يعرض سعر صرفها لمخاطر قد تؤدي إلى إضعاف أو تخفيض قيمة عملتها.

وحسب التقرير فإن البحرين حذرت بعض دول المجلس الأخرى من مخاطر انتشار العدوى، في حين اضطرت لخفض قيمة عملتها وهي تسعى للحصول على مساعدات مالية من هذه الدول لدعم احتياطاتها والمحافظة على سعر الصرف، وبالأخص من المملكة العربية السعودية.

ولكن السعودية هي الأخرى ليست بأحسن حالا من البحرين، وهي عرضة أيضا لمخاطر انخفاض سعر الصرف وليست محصنة ضد العدوى، فهي تعاني من عجوزات كبيرة وارتفاع نفقات الحرب في اليمن واقتصاد عليل، بجانب ابتزاز الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي استقطع جزءا كبيرا من الأموال.

وتجدر الإشارة إلى أن أزمة شرق آسيا المالية المدمرة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي قد بدأت بأزمة سعر صرف في تايلند، ثم سرعان ما انتشرت كما تنتشر النار في الهشيم إلى بقية دول شرق آسيا المجاورة.

ويذكر أن لـ"غورغ سورس" المضارب العالمي المعروف على العملات دورا كبيرا في المضاربة على عملات دول شرق آسيا خلال أزمتها المالية.

كما يذكر أن له دورا كبيرا في كسر عملتين أخريين، وهما الجنيه الإسترليني والروبل الروسي، ولكن ذلك لم يكن نتيجة تآمر، ولم يكن بواسطة دولة سيادية، بل كان نتيجة طبيعية لعوامل السوق، إذ لاحظ المضارب سورس بفطنته وخبرته أن أنظمة أسعار الصرف تلك غير قابلة للاستدامة، وأن مصداقيتها مثار شك، بمعنى أن أسعار صرفها مقيمة أكثر مما يجب -بما لا يتفق وحقائق السوق على أرض الواقع- مما يجعلها عرضة للانخفاض والتصحيح مستقبلا. وبالتالي توجد ثغرة أو فرصة لتحقيق أرباح من خلال المضاربة على أسعار صرف عملات تلك الدول، وهذا ما حدث بالفعل.

ولكن الواقع هنا يختلف، فهناك تخطيط مسبق وتآمر عنوة وفيه خسائر مالية على الطرف الذي يخطط له، وهي إمارة أبوظبي (حكومة سيادية)، والتي بحوزتها تأمينات سندات الدين القطرية الخاسرة -حسب فرضية المؤامرة في حال نجاحها- ولن يشتريها منها أحد في حالة الإفلاس ونجاح خطة التآمر. وبالتالي هناك خسائر مادية عليها، ولكن هذه هي التكلفة الاقتصادية لهدف أبوظبي السياسي التي يبدو أنها على استعداد لدفعه في سبيل تحقيق ذلك الهدف الأكبر، وهو كسر العملة القطري وإضعاف الاقتصاد القطري أو تدميره وإضعاف قطر اقتصاديا وسياسيا و/أو سلب بطولة كأس العالم منها.

وتشير الدلالات والمصادر إلى أن أبوظبي قد جندت الشخصين السالفي الذكر لقيادة هذه الحرب الاقتصادية على قطر نيابة عنها، وهما الهندي "Bavaguthu Raghuram Shetty" والبريطاني "David Rowland"، ولا شك أن ساعة الحقيقة قادمة لا محالة لهؤلاء ومن تآمر خلفهم ومن جندهم.

-----

متخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي

عضو زمالة الباحثين بمركز الاقتصاد الكلي ومعهد الفكر الاقتصادي المستجد بجامعة كامبريدج البريطانية

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى